عرض مشاركة واحدة
قديم 09-10-2012, 01:07 PM   #3 (permalink)
قمرهم كلهم
مستشار المؤسس ~

 
الصورة الرمزية قمرهم كلهم

 آلحـآله ~ : قمرهم كلهم غير متواجد حالياً
 رقم العضوية : 9952
 تاريخ التسجيل :  May 2010
 فترة الأقامة : 5103 يوم
 أخر زيارة : 10-19-2014 (08:38 PM)
 النادي المفضل :
 الإقامة : 
 المشاركات : 8,755 [ + ]
 التقييم :  40
  معدل التقييم ~ : قمرهم كلهم is on a distinguished road
 زيارات الملف الشخصي : 13847
 الدولهـ
Qatar
 الجنس ~
Female

  مشـروبيُ ~

  كآكآوي ~

  قنـآتيُ ~

 MMS ~
MMS ~

  مدونتيُ ~

لوني المفضل : Cadetblue
 
 

افتراضي رد: "بين الأمس واليوم"... للكاتبة انفاس قطر



قلب الدوحة

ذات ضحى السبت

بالقرب من شارع حمد الكبير المعروف بـ"شارع البنوك"



يوقف سيارته في موقفه الخاص

ويصعد إلى مبنى شركته الصغيرة الأنيقة التي تحمل في كل جنباتها رائحة ذوقه وطرازه.. وحتى جموده!!





يخلع نظارته الشمسية وهو يدلف من الباب الزجاجي الضخم لتبرز عيناه المتيقظتان كعيني والده تماما

هاتان العينان هما الشيء الوحيد الذي ورثه من والده

وفي بقية ملامحه كان شيئا مختلفا..

ملامح حادة مرسومة بدقة.. توحي بحنان مندثر أصبح ذكرى منقرضة

جسد استثنائي التكوين بعضلات نافرة متحفزة تظهر بوضوح بارز تحت الانسياب الأنيق لثوبه الأبيض.. عضلات لم تكن موجودة مطلقا قبل أربع سنوات..

فلو لم يفرغ كل طاقة غضبه حينها في رفع الأثقال يوميا حتى كان يوشك على الانهيار من التعب في نهاية اليوم

أو ربما كان انهار وقتها من الغضب والحقد والخزي والانكسار!!!

ثم بعد ذلك بأشهر.. سفره الغامض الذي استغرق عاما.. عاد بعده بشهادة الماجستير

وعاد كذلك -ويالا غرابة التغيير الجذري- ببنية جسدية مفرطة في القوة لدرجة مرعبة.. وروح مغرقة في القسوة لدرجة أكثر رعبا!!






وصل لمكتبه

ألقى سلاما باردا على سكرتيره

ثم دلف إلى مكتبه

لحق به سكرتيره وهو يضع ملف المراسلات أمامه ويهمس باحترام مهني:

سكرتير عمي زايد اتصل ويقول عمي أبو كسّاب يبيك تمر عليه



التفت له بحدة وهو ينظر له بقسوة متوحشة: نعم وش قلت؟؟



ابتلع السكرتير ريقه.. فهو يعرف هذه النظرة وليس مستعدا لتبعاتها التي يعرفها جيدا: فيه شيء طال عمرك؟!



همس بنبرة محرقة: أظني في ذا الشركة مالك إلا عم واحد هو.. أنـــــا..

مفهوم؟!!!





السكرتير يتراجع وهو يحاول الخروج بأقل الخسائر: أكيد طال عمرك.. أكيد



خرج السكرتير

بينما عاد هو لإرخاء جسده المتصلب

الحالة التي لا بد أن تصيبه كلما سمع اسم والده

لماذا رباه على كل هذا الاعتزاز والحمية والأنفه إن كان هو من سيكسره في النهاية؟؟

لـمـاذا؟!!

لـــمـــاذا؟!!

يحاول أن يتناسى الذكرى الموجعة التي تأبى الانزياح

همسات الرجال المحتقرة في المجالس (هذا اللي أخته العوبا تدرس طيران)

اضطراره لبدء حياة جديدة ابتعد فيها عن كل أصدقائه القدامى.. وأغرق نفسه في العمل

حصر علاقاته في علاقات العمل فقط

وغلف روحه بكل البرود والجمود الممكنين
حتى يستطيع التعايش مع هذا الخزي الموجع كما يراه هو
لولا خشيته من فضيحة أخرى أو كان ترك بيت والده وسكن في مكان آخر
وهاهو يعيش معهم بالاسم فقط.. بينما هو بعيد.. بعيد
بــــعـــــــيـــد جدا!!!

أو..... ربما يظن نفسه كذلك!!!



مزون تنزل الدرج وهي تمسح دموعا لا تريد أن تراها خالتها

رغم أنها تطل على ابنة خالتها كل يوم ولكنها كانت تجدها غالبا نائمة

اليوم كانت مستيقظة.... بدت لها غاية في الضعف

وجهها الذي كان في مضى غاية في الرقة والعذوبة كان اليوم خاليا من الحياة وعظام خديها تكاد تبرز من وجنتيها

عيناها غائرتان في فجوتين من هالات سوداء مرعبة أخفت حسنا كان لا يخفى..

شفتاها مشققتان جافتان على طرفيهما بقايا دم متخثر بعد أن كانتا أشبه في توردهما بفاكهة صيف ندية

اخضرار عروقها كان يعبر بوضوح مساحات قاحلة من ضمور جسدها المتهالك

فجوات كثيرة برزت في مفارق شعرها بعد أن تساقط الكثير من شعرها الذي كان رائعا بكثافته ونعومته




مزون جلست في الصالة السفلية وهي تخفي آثار دموعها

تبعتها خالتها بعد دقائق بعد معركة أخرى مع ابنتها جميلة

جلست الخالة وهي تنتفض غضبا:جننتني.. جننتني.. مارضت تأكل شيء.. وفي الأخير غصبتها على لقمتين



مزون بمساندة: هدي خالتي.. هدي.. أنتي عارفة إنها تصير عنيدة في موضوع الأكل



انتقلت عفراء من النقيض للنقيض من الغضب العارم للحزن المقيم وهي تهمس بوجع مستشرٍ:

مزون أنا صايرة عايشة في رعب إني بجي أصيحها يوم بألاقيها جثة

أنا الحين ماعاد أقدر أنام وأنا كل شوي أحط يدي على قلبها عشان أتأكد من دقات قلبها

وأحطها قدام خشمها عشان أتاكد إنها تتنفس




انتفضت مزون بجزع: بسم الله عليها خالتي.. لا تفاولين عليها



همست عفراء بألم عميق.. عميق: الله يخليها لي



مزون تقترب من خالتها وتحتضن خصرها وهي تهمس بمرح مصطنع لإبعاد خالتها عن التفكير المؤلم:

يعني أنا ما يخليني لش؟!!

عفراء احتضنت مزون وهي تهمس بحنان: أنتي عارفة إنه كلكم أنتي وجميلة وكسّاب وعلي كلكم عيالي وغلاكم واحد



مزون همست بخفوت وهي تبتعد عن خالتها قليلا: خالتي كسّاب أشلونه؟؟

ما يقول لش إنه يبي يتزوج؟؟ بأموت نفسي أشوف عياله هو بالذات





عفراء ابتسمت وهي تقرص خدها بحنان: وعلي المسيكين.. ماتبين تشوفين عياله يعني؟!!



مزون همست بألم: أقول يمكن كسّاب لو تزوج وجاب عيال.. يطلعون حنانه

ويرجع كسّاب القديم

يا الله يا خالتي وش كثر مشتاقة له

أربع سنين مروا مايقول لي الا كلمتين كل كم شهر



صمتت خالتها.. فهي في هذا الموضوع بالذات تقف على الحياد ولأسباب كثيرة!!



أكملت مزون بذات الألم: الله يأخذ ذا الدراسة اللي بعدته عني

والله لو دريت إن ذا كله بيصير إني ما أدخل ذا التخصص

وليتني قعدت على اقتناعي حتى

يالله يا خالتي وش كثر ندمانة !!




خالتها بمؤازرة: خلاص يا بنتي اللي راح راح



مزون بألم أكبر: أنتي عارفة ياخالتي إني بعد شهر واحد بس.. كنت أبي أطلع من الكلية عشان كسّاب واللي شفته صار له

ما توقعت إن كسّاب بيتأثر بذا الطريقة.. قلت بيعند أسبوع وإلا أسبوعين ويتقبل الموضوع وتمشي السالفة

ما توقعت حياتنا تتعقد كذا بسبت دراستي..جيت بأطلع عشانه لكن إبي حلف علي

تدرين خالتي واحنا بزران كل طفل دايم يحلم حلم مجنون.. إنه بيكون رائد فضاء مثلا

مشكلتي إني حلمت حلم غير معقول كان المفروض إنه ما يتحقق.. لكن لاني بنت زايد آل كسّاب.. الحلم تحقق

جيت بأتراجع عنه.. زايد ما خلاني..

والله العظيم لو خيروني بين كسّاب وكل تخصصات الدنيا.. كفة كسّاب ترجح

كسّاب ماكان إخي بس.. كان إبي وأمي

من عقب ذا التخصص لا بارك الله فيه.. الكل تغير.. وحياتنا كلها تغيرت






حينها ماعادت تحتمل.. ماعادت تحتمل

انخرطت في بكاء حاد موجع..فمشاعرها كانت مستنزفة تماما

ابنة خالتها أولا..ثم موضوع كسّاب ثانياً

خالتها انتفضت بجزع وهي تحتضنها بحنو وتهدئها:

بس يا قلبي.. بس

تراني ماني بمستحملة.. لا تبكين...أخورها الحين معش


قبل 17 عاما




يجلس على سريرها منحنيا عليها بجذعه النحيل.. يمسح على رأسها الصغير الذي أرخته على ساقيه الهزيلتين اللتين تصلبتا من الألم لطول ما طواهما تحته

تأخر الوقت.. ونامت الصغيرة.. والألم في ساقيه يتزايد ولكنه يتحامل على نفسه

وهو يحاول احتمال الألم الذي يزيد عن طاقة احتمال طفل في الثانية عشرة بكثير

كان لا يريد سحب قدميه من تحتها خوفا أن تصحو من نومها..

فهي نامت للتو بعد ساعات طويلة من البكاء والسؤال الذي لم يتوقف عن والدتها




تطل عليهما بوجهها المتورم من البكاء وعينيها الذابلتين بعد أن ذهبت آخر المعزيات.. لينقلب إرهاق وجهها الحزين إلى صدمة ألم وهي تقترب من الجسدين الصغيرين:

كساب حبيبي أنت على قعدتك ذي من عقب المغرب؟؟



كساب برجاء طفولي: تكفين خالتي قصري صوتش مابغت تنام.. قطعت قلبي من كثر ماسألت على أمي



عفراء تمد يديها لترفع مزون عن ساقيه.. ويشير كساب الصغير بيديه لا:

تكفين خالتي خليها.. إذا قامت وما لقتني بتبكي





عفراء ترفعها بحنو وتضعها على سريرها وهي تهمس له بحنان موجوع: جعل مزون ما تذوق حزنك ياقلبي

قوم يأمك تعشى وعقبه كلنا بنام عندها..





يحاول كساب الوقوف ليتهاوى ساقطا من ألم ساقيه المتصلبتين.. تنحني عليه عفراء بجزع لتجلس جواره على الأرض وهي تمسك به بحنو: وش فيك ؟؟



يهمس بألم وهو يحاول منع دموعه من الانحدار: أرجيلي توجعني..



حينها لم تستطع عفراء منع نفسها من الانفجار في بكاء جنائزي مكتوم وهي تحتضن كساب بكل قوتها

فكساب بالذات طوال اليومين الماضيين كان هو من يثير أقسى أوجاعها.. بين إدعاء رجولة مبكرة وهو يتلقى مع والده التعازي في وفاة أمه

وبين دور أمومة جديد وزعه بين علي ومزون وخصوصا مع مزون التي بدأ بقضاء أكثر وقته معها حين رأى سؤالها الدائم عن أمها

وهو في كل هذا يستهلك طاقة جسده الصغير.. ويمنع نفسه من الانهيار في حزنه الطفولي اليائس

كانت تعلم أنه أكثرهم حزنا وإن أخفى حزنه ودموعه.. فهو ابن وسمية البكر.. وللبكر دائما قربا خاصا من روح والدته.. وبينما خيط تواصل عصي على التفسير

وهو كان من قضى معها الوقت الأطول.. وهو الأكبر سنا والاكثر استيعابا بين أشقائه.. يعرف معني اليتم وكيف ستكون الحياة مرة قاسية بدونها.. لذا هو من سيحس فعلا بمرارة فقدها وخلاء المكان والروح بعدها





سالت دموعه بصمت في حضن خالته.. وشعرت عفراء أن البلل الذي بدا يغرق صدرها.. كما لو كان يغرق روحها في دوامات عاتية من حزن أسود سرمدي

همست عفراء بحنو ذائب وهي تمسح على خصلات شعره الناعمة: أنا بأشلك حبيبي وأنزلك تحت تتعشا





حينها تصلب جسده وهمس بصوت مبحوح حاول أن يخفي رنة البكاء فيه وهو يصرخ مستنكرا: تشليني؟؟ ليه أنا عويق؟؟

ثم أردف بثبات: دقيقة وأقوم معش.. بس ما أبي عشا

أبي أروح أشوف عليان تعشى وإلا لأ



همست عفراء بحنان: عليان تعشا وراح مع أبيك لغرفته.. وأنت لو ما تعشيت والله لا أزعل عليك

ثم أردفت بحنان أرق وهي تنزل نقابها المرفوع فوق رأسها على وجهها:

أمش أنا وياك نتعشى ونعشي جميلة.. خليتها تحت تبكي عند الخدامة

سويسرا

مدينة جنيف حيث المقر الدائم للأمم المتحدة

توقيت أبكر بساعتين






يصحو من نومه ويتجه للحمام ليغتسل ويتوضأ ليصلي ضحاه

اليوم إجازة لكل منسوبي القنصلية وهو ومن ضمنهم

ينظر في المرآة الطويلة لانعكاس صورته.. لوجهه الطفولي النحيل

لطالما كان في شكله مناقضا لشكل كسّاب

كان أطول من كسّاب وأنحف وأكثر وسامة..ولكن ملامحه فيها طفولة غريبة على عكس ملامح كسّاب المثقلة بالرجولة

يبدو للرائي كما لو كان في السادسة عشرة مع عارضه الخفيف ونظرة البراءة المتلألة في عينيه الواسعتين رغم أنه يعبر أبواب السادسة والعشرين

وعلى طرف الطباع كان دائما أكثر هدوءا واتزانا وعمقا من كسّاب المشتعل الصاخب

كانا على طرفي نقيض شكلا ومضمونا





حينما أنهى صلاته.. تناول هاتفه ليتصل

حينما وصله الصوت الفخم على الطرف الثاني همس باحترام حماسي:

حيا الله أبو كسّاب

ها.. تجيني وإلا أجيك ذا الصيفية؟!!!






مزون تمد يدها لكأس الماء أمامها ترتشف منه وتهمس بشفافية: بس جد خالتي ماشاء الله عليه كسّاب

شاب مثله وشركته مالها ثلاث سنين.. صارت محققة ذا النجاح كله.. وباعتماده على نفسه





حينها ضحكت عفراء ضحكة قصيرة: ليه أنتي صدقتي التمثيلية ذي؟؟



مزون باستغراب: أي تمثيلية؟!!



عفراء بابتسامة: أنه كسّاب حقق ذا النجاح كله بروحه بدون مساعدة



مزون بتساؤل مدهوش: أجل؟؟



عفراء بذات الابتسامة: حبيبتي كسّاب نجح لأنه ولد زايد.. حتى لو كان يوم سوى شركته سواها من ورثه من أمه وماخذ من زايد ريال واحد

فلمعلوماتش ولو ما كنتي تعرفين.. زايد كان يدفع من عنده الفرق عشان الشركات تعطي مشاريعها لشركة كسّاب اللي كانت شركة صغيرة جدا ومهيب معروفة

حتى في المواد الأولية اللي كان يشتريها.. زايد يطلب منهم يعطونها كسّاب بأقل من سعرها وهو يدفع الباقي

لحد ما وقفت شركة كسّاب على أرجيلها خلال فترة قياسية مستحيلة لولد في عمره وشركة في إمكانية شركته اللي كانت بدون امكانيات اساسا





مزون بدهشة عميقة: وأنتي اشدراش؟؟



عفراء هزت كتفيها: لي مصادري.. والمهم إن كسّاب مايدري عن شيء من ذا الكلام

ما نبي نكسر اعتزازه بنفسه وفرحته بنجاح شركته واعتماده على نفسه





مزون بثقة رغم عجزها عن تصديق كل هذا: أكيد خالتي

ثم اردفت بحنان عميق: فديت أبي ياناس.. نعنبو لايمني في حبه

ثم أردفت بحماس: بس والله إن زايد مخ.. شوفي إبي مامعه إلا ثانوية وكسّاب معه ماجستير إدارة أعمال

ومع كذا شوفي أشلون إبي حقق ذا النجاح كله باعتماده على روحه بس.


عفراء تبتسم: إبيش ماشاء الله مخه نظيف.. وعنده حاسة اقتصادية عجيبة

والشيء الثاني ترا إبيش يوم بدا شغله بدا برأس مال مهوب شوي

يعني زايد باع أكثر نصيبه من إبل أبيه اللي كانت كلها من الابل الطيبة وجابت له مبلغ مهوب بسيط أبد



ضحكت مزون: بس عقب سنين رجع واشتراهم..



ضحكت عفراء: البدوي أعز ماعليه حلاله.. غلاها من غلا عياله..

تدرين وسمية الله يرحمها كانت تقول إنه تيك السنين كان مثل اللي مضيع له شيء وفيه حزن لين رجعهم

مزون بحنين وحزن: الله يرحم أمي.. مالحقت أعيش حنانها ..

ثم أردفت بحب غامر وهي تضع رأسها على كتف خالتها: والله يخلي اللي ماخلتني أحس بغياب أمي وكانت هي أمي وأعز..





عفراء بتأثر: أنتو وصات وسمية الغالية لي.. والله لو تبون عيوني ماغلت عليكم..



مزق أجواء حديثهما المنسجم صراخ الخادمة من الأعلى: مـــامـــا مـــامـــا

تعالي شوفي جميلة





عفراء قفزت وهي تتعثر برعبها وجزعها على صغيرتها وهي تركض صاعدة للأعلى ومزون تجاوزتها لتركض أمامها

حين دخلتا وجدتا الخادمة تحاول رفع جميلة عن أرضية الحمام

حينها انخرطت عفراء في بكاء هستيري: شفتي يا مزون شفتي!!

راحت ترجع اللقمتين اللي غصبتها عليهم

شفتي!! شفتي!! تبي تموت ذا البنت!! تبي تموت


مزون همست بتهدئة وثبات وهي تقترب من جميلة: هدي خالتي فديتش.. مافيها إلا العافية وأظني صرتي متعودة على كذا



كانت مزون تحاول التجلد وهي تمسح وجه جميلة وتنظفه ثم تحملها بخفة كما لو كانت تحمل طفلا

فكل ما بقي من عود جميلة الريان هو وزن طفل في السابعة من عمره

حوالي 28 كيلوجراما مازالت في تناقص

كل مابقي من ذلك الجمال الملائكي العذب هو خيال شاحب لمومياء توشك على مغادرة الحياة..

عروق بارزة وعظام ناحلة وجسد خالٍ من كل معالم الحياة



مزون وضعت جميلة على سريرها ثم همست في أذنها: جميلة حرام عليش اللي تسوينه في نفسش وفي أمش



جميلة أدارت جسدها الجاف كغصن ذاوٍ..وهي تهمس بصوتها المختنق الضعيف الذابل:

تكفين مزون اخذي أمي وخلوني في حالي


الدوحة

منطقة الأبراج بالقرب من الكورنيش

مقر مؤسسة ضخمة من أكبر مؤسسات قطر تضم تحت لوائها عدة شركات وتحتل بمجمل شركاتها برجا ضخما




الطابق الأخير من البرج




مكتبه الضخم البالغ أقصى حدود الفخامة والأناقة

يراجع عدة أوراق أمامه.. بحسه المتيقظ دوما.. لا يمكن أن تفوته صغيرة ولا كبيرة..

ذكاءه الفطري متحفز دوما.. وهاهي شركاته تمر بمرحلتها الذهبية التي صنعها هو أولا وأخيرا

طلته مهيبة رغم أنه للقصر أقرب.. وكأنه بهذا يلغي مقولة عاشت في الأذهان وتجذرت "الطول هيبة"

غزت الشعيرات البيضاء رأسه ولكن عارضيه مازالا يقاومان الغزو الأبيض مع شدة سوادهما

رن هاتفه.. رأى الاسم وابتسم...كم اشتاق لهذا الفتى الغائب!!

مع علي يشعر براحة عميقة..فلهذا الفتى قدرة هائلة على الاحتواء

معه لا يشعر بتحفز كسّاب ولا حزن مزون

بات عاجزا عن تفهم الشابين اللذين يساكنونه...ويشتاق لهذا الساكن بعيدا عن حناياه

يشتاق لعلي الذي كان يفهمه بدون لغة الكلمات الممجوجة

حينما كان أولاده صغارا..كان ارتباط كسّاب ومزون ببعضهما أكبر
بينما علي كان مرتبطا به هو..رغم مشاغل زايد المتعددة كان دائما ملتصقا به
ومع ذلك كان علي بعد كل هذا من أصرَّ على الابتعاد والعمل في وزارة الخارجية

رغم رفض زايد لعمله الذي أجبره على التنقل من بلد إلى بلد منذ التحاقه به منذ أربع سنوات



"هل أردت أن تهرب من أحضاني يا علي؟!!

أفقد الولدين وفي وقت واحد!!

كسّاب فقدته وهو يسكن معي في بيت واحد..وعلي فقدته بالبعد

وحتى مزون ماعادت مزونا..حزن عميق يغلف نظرة عينيها الغالية

مابهم أولادي؟!!

ما بهم؟!!"




أشجانه طاردته مع اسم علي المضيء على الشاشة

فتح الاتصال وهمس بصوته الثقيل العميق الموغل في الفخامة.. صوت من اعتاد أن يأمر فيُطاع:

هلا والله إني صادق!!



صوته المرح العميق: حيا الله أبو كسّاب.. تجيني ذا الصيفية وإلا أجيك؟!!



ابتسم بذات الفخامة: إلا تجيني أنت و أنت سنافي ونشمي..

ولو أنك تخليني أكلم الوزارة كان ريحتك من ذا الشحططة من ديرة لديرة..وتقعد في الدوحة


يبتسم علي: أنا مرتاح كذا



تنهد زايد في أعماقه بحرارة

لا يريد أن يستجديه.. رغم أنه يتمنى أن يستجديه..ويستجديه ويستجديه

يستنزفه الاشتياق له

فمهما يكن هو أب وهذا صغيره

أتعبه هذا الاشتياق وهذا البعد الذي بات يحيط بروحه إحاطة السوار بالمعصم





همس زايد بهدوء حازم: جعلك مرتاح دوم

ثم أردف: وها متى جاينا إن شاء الله؟!!

علي باحترام ودود: شهر شهرين.. في ذا الحروة



زايد بجزع لم يظهر في صوته الثقيل: ياكبرها عند الله يأبيك..قد لي 3 شهور ما شفتك



علي بمودة: سيّر عليّ جعلني فدا عينك



زايد يتذكر شيئا ثم يهمس بحزم أبوي: أنا الأسبوع الجاي عندي سفرة لفرنسا

تعال لي أنت هناك




علي بحماس: من جدك؟!!

أبشر.. أبشر أنا اللي باستقبلك في المطار.. بتلاقيني بايت في ديغول من قبلها بليلة


زايد بذات الحزم الأبوي: لا لا تعطل شغلك.. تعال لي في الويكند حقك المهم أشوفك..



علي برجاء لطيف: يبه تكفى جيب مزون معك.. هي قالت لي أمس إنها خلصت امتحاناتها خلاص



زايد يبتسم: أنت عارف إن مزون مستحيل تطلع من الدوحة وكسّاب وراها.. تقول أخاف يحتاج شيء



علي بألم لم يظهر في صوته: ويعني لو أحتاج بيطلب منها أو من غيرها؟!!



زايد بذات طريقة الرد ..الألم المختبئ خلف حزم صوته: المهم هي مرتاحة كذا

بيت زايد آل كسّاب

أروقة الطابق العلوي الشاسعة والممتدة

الساعة الحادية عشرة ليلا




تقف أمام باب غرفته منذ أكثر من عشر دقائق

ليست المرة الأولى التي تدخل غرفته حتى تعاني هذا التردد الذي يقتلها

فهي تدخل غرفته بشكل يومي

فهي لا ترضى أن ترتبن الخادمات ملابسه أو ملابس علي أو والدها.. فهي من اعتادت على فعل هذه المهمة يوميا...ولكنها كانت ترتب في غرفة خاليا من حضوره

مرت أشهر متطاولة لم يتبادلا فيها حوارا بالمعنى المفهوم للحوار

فكيف بهذا الموضوع الذي جاءته به الليلة؟!!



تنهدت بعمق وهي تستجمع كل قواها الخائرة وكل ثقتها التي توشك على الهرب خوفا من سطوة كسّاب

كساب منذ مراهقته المبكرة وهو حاد الطباع وسريع الغضب.. ولكن شتان بين حدة الطباع مع طيبة قلبه البالغة سابقا.. وحدة الطباع مع شخصيته القاسية المتحفزة الجديدة التي برزت في السنوات الأخيرة



طرقت الباب

وصلها صوته الحازم فيه رنة غضب " نعم؟؟"




ابتلعت ريقها وكانت على وشك الهرب من أمام الباب لولا أنها فُجعت بالباب يُفتح وكسّاب يقف أمامها في فرجة الباب المفتوح بكامل اتساعه

لا ينكر أنه تفاجأ أن تكون هي الطارقة

ولكن تفاجئه لم يظهر لصوته الحازم البارد: "نعم؟!!"


مزون تبتلع ريقها: ممكن أتكلم معك شوي؟!!



همس بذات الصوت البارد الحازم: آسف ماعندي وقت



ثم أغلق الباب في وجهها بصوت مسموع..

وقفت مصدومة لثوانٍ.. ولكن صدمتها تبددت قسرا

فليس هذا أسوأ ما قد يفعله تجاهها!!

فطوال السنوات الماضية مارس ضدها صنوفا مختلفة من التجاهل الموجع

وحين يقرر بعد أشهر أن يخترق أسوار التجاهل ليشعرها أنها قد تكون مخلوق مرئي يسكن على مقربة منه

يكون اختراقه للتجاهل أكثر قسوة من تجاهله.. كلمات جارحة قاسية حادة وقصيرة.. لكن أثرها عميق.. متوحش.. وطويل.. طــويـــل !!




تنهدت وهي تقوم بمحاولة جنونية لم تقم بمثلها مطلقا

فالموضوع الذي تريد محادثته فيه لا يحتمل التأجيل



لذا فتحت الباب ودلفت للداخل..ام تجده في الصالة حيث توقعت أن تجده

فتجاوزت صالته لغرفة نومه بخطوات مترددة وجلة وهي تدفع كل القوة في عروقها المتهاوية وجلا

كان يتمدد على سريره ويقرأ كتابا

حين رأها دخلت.. قفز وهو يهتف بغضب حقيقي: أشلون تجرأين وتسوين كذا؟!!



حاولت أن تهمس بهدوء واثق مصطنع: فيه موضوع مهم أبيك فيه



كسّاب بذات الغضب المحرق: صدق مافي وجهش سحا

بس وش نتوقع مع وحدة تدرس مع الرياجيل كتف بكتف؟!!

وبكرة بتروح تهيت من ديرة لديرة..

إذا جا العيب من أهل العيب ما يكون عيب




شهقت بعنف..شعرت أنها عاجزة عن التنفس..

كانت طعنته مؤلمة.. مؤلمة حقا!!

تكاد تقسم أنها شعرت بملمس نصل طعنته وهي تخترق لحمها بقسوة ثم تشعر بدمها يفور ويتدفق لزجا ساخنا ملتهبا

ولكنها لم تعلم أنه بطعنته آلم نفسه قبل أن يؤلمها.. ونصل طعنته انغرس في روحه المثقلة الموجوعة

وكلماته جرحت رجولته قبل أن تمزق بقايا أنوثتها



تنهدت بعمق موجوع..

التحسس من هذا الموضوع بات ترفا ماعاد يليق بها

ولكن ماذا تفعل.. لا تستطيع منع نفسها من الاحساس بكل هذا الألم

ولكن بما أنها الآن تتألم.. ويستحيل أن تتألم أكثر من هذا

فلن تسمح له أن يثينها عما جاءت من أجله

همست بهدوء كانت روحها تتمزق خلف متاريسه: ماني برادة عليك

تدري ليش؟!!

لأني شعرة من شعر وجهك

هيني.. هيني مثل ماتبي.. لأنك بتهين نفسك معي منتدى ليلاس الثقافي





أصابته في الصميم

الـــصـــمـــيم

هذا وهي لا تريد الرد عليه فكيف لو كانت سترد؟!!

تقلصت قبضته التي كان يكورها ويعتصرها بينما أكملت مزون حديثها وهي تهمس بذات الثقة:

أنا أدري إني ما أهمك في شيء..وأنا ماني بجاية عشان موضوع يخصني

أنا جايه عشان خالتي عفرا..وأدري إن خالتي لها معزة كبيرة عندك


قاطعها كسّاب بحدة: خالتي عفرا طيبة وبخير وتوني مكلمها

ووريني عرض مقفاش الحين


لم تهتم لطرده له وأكملت: وبنتها بعد طيبة وبخير؟!!



بذات النبرة الحادة: والله بنتها اللي جابت ذا كله لنفسها



شهقت مزون: يعني عاجبك حالها؟!!



عاد كسّاب للجلوس على السرير وهو يهمس ببرود: على قولت الشوام.. اللي من إيده الله يزيده



شهقت مزون بعنف أكبر: حرام عليك



حينها التفت لها كسّاب بحدة: واللي تسويه هي في نفسها مهوب حرام

تدرين بنت خالتش هذي لو ماتت بتكون من أهل جهنم والعياذ بالله


انتفضت مزون بجزع كاسح: أعوذ بالله.. أعوذ بالله.. استغفر ربك.. استغفر ربك



كسّاب يرفع حاجبا وينزل الآخر: بنت خالتش لو ماتت بتكون منتحرة

والمنتحر وش مصيره عند ربه؟!!


مزون بدأ صوتها بالاهتزاز: حرام عليك.. هذي وحدة مريضة



كسّاب بسخرية: مريضة؟؟

هذا والله مرض البطرة!!

جميلة عشان الله رزقها شوي صحة وجمال.. ماقالت الحمدلله على النعمة.. تبطرت

لو عرفت وش معنى إنها تشتهي الأكل ولا تلاقيه؟؟

لو عاشت في فقر وحاجة؟!!

لو حتى بس شافت الأخبار وشافت الناس اللي عايشين في المجاعات كان عرفت قيمة النعمة اللي كانت فيها قبل تضيع من يدها



مزون بصوت مختنق: حرام عليك كسّاب.. مرض فقدان الشهية مرض نفسي في المقام الأول



كسّاب بذات السخرية:نفسي؟!! حلوة ذي!!

وويش كان سبب المرض النفسي على قولتش في البداية؟!!

لإنها كانت تبي تضعف مع أنها ما كانت متينة أساسا..


مزون بارتجاف: لا مهوب كذا ..وهذا مهوب موضوعنا.. أنت ماتبي تساعدها؟!!



كسّاب بثقة حازمة: أنا عشان خالتي عفرا مستعد أسوي أي شيء

لكن جميلة ما تستاهل

وأظني أني أكثر من مرة قلت لخالتي خل نسفرها برا هي اللي عيت

وخالتي ما تبي وسيط بيني وبينها

عشان كذا اقصري الحكي اللي طال أكثر من اللازم.. وهوينا

ماني بطايق شوفتش قدامي


مزون تنهدت بعمق أكبر والكلمات تخرج من بين شفتيها مرتجفة متقطعة خائفة:

كـــسّـــاب

تكفى عشان خالتي اللي غلاها عندنا كلنا مثل غلا أمي

تكفى...تزوج جميلة.. تكفى



 
 توقيع : قمرهم كلهم




رد مع اقتباس